الاعتقاد بالنجامة

حاول المنجمون كثرة الاعتماد على دراسة الشخصيات التاريخية مع تحديد مواقع الكواكب والنجوم في موعد ولادة أحد هؤلاء المشاهير لإثبات صحة النجامة ومثال ذلك شخصية نابوليون الذي يكشف وجود زحل وفقهم عند ولادته عن صعوده السريع إلى السلطة والذي كان ليشير أيضاً إلى سقوطه السريع والحاد ويضيف وجود القمر شكلاً مأساوياً وكارثياً لنهايته.. ويشير وجود المريخ إلى نجاحات عسكرية والحق أن هذا العرض يوافق التشكيلات النجمية عند ولادة نابوليون كما ومراحل حياة نابوليون أيضاً ولكن كم من الآلاف ولدوا في وقت ولادة نابوليون وكان مصيرهم مختلفاً تماماً عن مصيره؟ إن الرد العلمي على الذين يعتقدون بالنجامة سهل، لكن هل يكفي ذلك لإقناعهم بالتراجع عنها؟ تشير الاحصاءات أو الأبحاث إلى أن إهتمام الجمهور يزداد بشكل مطرد بالنجامة، فقد كشف إحصاء SOFRES عام 1982 في فرنسا أن 53 % من الفرنسيين يعتقدون أن النجامة علم وكشف إحصاء Gallup عام 1975 أن ربع الشعب الامريكي يؤمن بالنجامة وتصل هذه النسبة إلى الثلث بين طلاب الجامعات (70% من النساء و 50% من الرجال يطالعون بين الحين والآخر على الأقل حظهم في الجرائد والمجلات) ويعتقد باحثون كثيرون أن تفسير جماهيرية النجامة يرجع إلى نفسانية الشعوب والظروف المحيطة بها فمعظم الذين يبحثون عن حظهم يخفون في لاوعيهم أملاً أو وعداً أو حاجة يأملون بتحققها ويكون بعضهم غير راض عن حياته ويأمل أن يأتيه الحل لمشاكله من الغيب الذي تكشفه له عوالم النجوم وقد يريد بعضهم تبديد الشكوك والمخاوف التي تحيط بقرار ما يريد إتخاذه ويكون القرار بالتالي مرتكزاً على مرجع خارجي، فكأنما يريح الانسان بذلك نفسه من تحمل مسؤولية ما سينجم عن قراره، لم تكن النجامة في القرن الثاني عشر تعتبر في التصنيف العربي للمعارف علماً بالمعنى الصحيح للكلمة وكان ابن رشد يعتبرها فناً تخمينياً وليس علماً، إن الذين يترددون بقبول النجامة يعتقدون أنها لا تقوم على أساس علمي وهذا صحيح رغم أن غالبية الناس لا يعرفون ما هو"العلم" ويرى بعضهم بالمقابل أن النجامة مبنية على أسس تقنية متينة إنما لا تزال غير مثبتة، فهي تنطلق من الخيال لتطور نسقاً منطقياً وهذا غير صحيح والحق أن أسس النجامة ترتكز على قاعدة منطقية معقولة لكن بنيتها الناجمة عنها خاطئة وغير منطقية، ولكن ما هو التعريف الحديث للعلم والذي عليه إنما نبني نظرتنا لأنماط الأفكار الأخرى ومنها النجامة؟ إن أحد المميزات الرئيسية للعلم هو إعتماده على التجربة بشكل أساسي والتجربة العلمية هي مسألة تصاغ في إطار نظرية ما وتطرح على الطبيعة، وتكون لغة هذه المسألة في العلوم الفيزيائية هي الرياضيات أوالهندسة فإذا كانت النجامة تستعمل الحسابات في معرفة الطالع، لكن لغتها الرياضية أبعد ما تكون عن الفكر الرياضي، وإضافة إلى ذلك فإنها لا تطرح أي تساؤل على الطبيعة لتحسين مسألة نظرية وفهم حلول مطروحة فالنجامة ليست منظومة معرفية ولو فجة، وليس في ذلك أي إجحاف بحقها، لأنها لا تطرح موضوع بحث معرفي، وتدعي بالمقابل معرفة كاملة هي في الواقع سكونية جامدة، لأن المعرفة هي في الجوهر البحث المنفتح على الحقيقة والذي لا حدود تقيده في الاتجاه إليها، وعلى العكس من ذلك تماماً فإن مسيرة العالِم ترتكز على المنطق النقدي كما يقول كارل بوبر، فالعالِم يصوغ الفرضيات والتخمينات والحدوس حول الحقيقة والواقع، ويُعدّ في الوقت نفسه الاختبارات من أجل سبر هذه الحدوس وبرهانها وهكذا فهو يتقدم بواسطة التجارب والأخطاء، وهي مسيرة لا ينتهجها أبداً المنجم ، لقد تبوّأت النجامة مركز الصدارة بين المنتجات التنجيمية الصناعية الأخرى، وذلك بسبب المكانة التي وجدتها في الصحافة والإعلام، فطرق التنجيم الأخرى مثل أوراق اللعب أو غيرها تحتاج إلى لقاء مباشر بين المنجم والزبون، أما النجامة فيمكن تعميمها إضافة إلى أنها دورية مثل الصحف والمجلات والاذاعة وغير ذلك من وسائل الاعلام والحق أن النجاح الذي تحققه النجامة في الصحف والإذاعات لا يرجع إلى تحقق النبؤات التي تلفقها يومياً، بل إلى حاجة الإنسان للمساعدة على التأقلم مع الجو الذي فرضته الثقافة الصناعية الغربية الاستهلاكية ويبين جان بياجيه J. Piaget أن النجامة تجعل الفرد في هذا الوسط المضطرب مركز الإهتمام طالما أن تفسير الأحداث يتمحور عليه، والحق أن التقدم العلمي لعب دوراً كبيراً في تراجع الشعور بالطمأنينة الذي كان يهبه المعنى الديني للأفراد في الغرب، فقد أسس البناء العلمي توجهه المعرفي على التعديل المستمر وعلى قاعدة مبهمة تجاه المستقبل تحديداً وخلق ذلك قلقاً داخلياً مقابل الصدفة والعشوائية في الطبيعة اللتين أحلهما العلم محل العناية المسيّرة لكل شيء، فالذي يبحث عن حظه في الأبراج إنما يحاول القيام بمغامرة العلم من جهة والهروب منها من جهة ثانية! فما هو بالنسبة للعلم تخميني أو ثانوي أو يجب دراسته بتفصيل دقيق وفق قوانين الاحتمالات هوبالنسبة للفرد شيء أساسي لأنه يتعلق بفردانية مصيره،إن العلم الذي جرد الطبيعة من كثير من المفاهيم التي كانت قد أُلبست لها خطأ وعن جهل جرّد أيضاً أناساً كثيرين من الجانب الذاتي للحدث، وهو في الحقيقة لم يعوضهم بما يحفظ التوازن النفسي لديهم فيما هو ذاتي وحميمي وحافظ للوحدة مع الكل في آن واحد، إن هذه الحاجة إلى الإعتقاد بالنجامة تعكس في الحقيقة حاجة إلى رؤيا الوحدة التي لا تعزل الإنسان ولا تنفي عنه ذاتيته، لكن ذلك لا يعد مبرراً لهذا الإعتقاد، بل على الإنسان أن يخلق ويحقق بنفسه هذه الوحدة! وللحديث بقية                                                

للتواصل مع الموقع او للاستشارات يرجى الاتصال على الارقام التالية 00611821604-009613542988 – 009613850534 -فايبر السكايبي- mahmoud almougraby