الدين والحضارات

يلمس الباحث في تاريخ الحضارات الشرقية القديمة جانباً جوهرياً فيها وهو الدور المهم والمميز الذي لعبه الدين في تلك الحضارات لدرجة يمكن أن نقول بأن الدين كان هو الدافع والموجه لتلك الحضارات وما قدمته للبشرية من إنجازات حضارية متنوعة معمارية، سياسية، فنية، أدبية وغيرها في الألف الثامن قبل الميلاد إكتشف الإنسان الزراعة في منطقة الشرق القديم وإعتبر علماء الحضارات ذلك الإنجاز بمثابة الثورة الأولى في تاريخ البشرية لأنها نقلت الانسان من إنسان سلبي مستهلك لخيرات الطبيعة إلى إنسان إيجابي منتج فكان ذلك الإنجاز بمثابة إنعطاف حاد في تاريخ البشرية وعلى أثر ذلك عرف الإنسان قيمة الأرض وبدأ ينتمي للأرض التي يعيش عليها وتزوده بغذائه فبدأت مرحلة الإستقرار والزراعة في حياة الإنسان وإنتهت حياة التنقل والترحال وجمع الغذاء بدأ الإنسان في هذه المرحلة يفكر في الكون والخلق وأراد أن يعبر عن حبه للأرض فقدسها وعبدها وصنع تمثالاً لها من الطين على شكل إمرأة عارية أطلق عليه العلماء إسم الآلهة الأم وكان الدافع لذلك أن الإنسان قدإكتشف بعد دهشة وتفكير طويل أن الأرض تشترك مع المرأة في ظاهرة الخصوبة والإنجاب والعطاء وتتوالى الأيام والسنون وتدخل البشرية في مرحلةالألف الثالث قبل الميلاد وهي المرحلة التي شهدت تأسيس الإمبراطوريات العظيمة في منطقة الشرق القديم، خاصة في وادي الرافدين ووادي النيل، تشير الأساطير السومرية القديمة بأن السومريين كانوا يعتقدون بأن الآلهة قد خلقت البشر حتى يقوموا على خدمتهم وأن الإنسان بحاجة إلى الحكام الذين تختارهم الآلهة لتنفيذ قوانينها المقدسة ففي عصر قديم جداً نزل التاج وعرش الملكية من السماء وتذكر قائمة ملوك سومر بأن الملكية هبطت من السماء لأول مرة قبل الطوفان على مدينة أريدو ثم رُفعت الملكية إلى السماء ثم نزلت الملكية من السماء مرة ثانية على مدينة كيش بعد الطوفان وبناءً على هذا المفهوم سيطرت سلسلة من الحكام على مصائر الناس في بلاد سومر نيابة عن الآلهة وبذلك كان الملوك السومريون يتمتعون بالقدسية منذ أقدم العصور وكانوا يتلون الآلهة في المرتبة وهم ظل الآلهة على الأرض وكان أولئك الحكام من طبقة الكهنة ( الحاكم- الكاهن) ويدل على ذلك أن الحكام كانوا يسكنون في بداية التاريخ السومري في جناح خاص ملاصق للمعبد يسمى (كيبار) بمعنى أن الملك لم يكن له قصر مستقل للحكم إلى درجة يمكننا القول أن العمارة السومرية عمارة دينية تركزت بشكل رئيسي على بناء المعابد، ومعظم معلوماتنا عن العمارة السومرية مستمدة من العمارة الدينية وليست من العمارة الدنيوية مثل البيوت والقصور

وكان المعبد يشتمل على مقر الكاهن أوالملك كما يشتمل المخازن والمشاغل في المدينة وهذا يعكس الدور الذي كان يؤديه المعبد من الناحية الإدارية والاقتصادية في المدينة السومرية، ويؤكد ذلك أن الملوك في العصور اللاحقة حتى بعد أن إنفصلت سلطتهم الدنيوية عن السلطة الدينية ظلوا يحتفظون بشخصيتهم الدينية المقدسة بإعتبارهم ممثلين للآلهة على الأرض وهم وسطاء بين الناس والآلهة يطلق على هذا الشكل السياسي للحضارات الشرقية اسم الحكومة الثيوقراطية ويعني الحكومة ذات الصبغة الدينية التي يكون فيها الحاكم هو قمة الهرم السياسي والديني، إنعكست هذه الرؤية السياسية الدينية في تخطيط وعمارة المدينة فكان لكل مدينة معبد خاص وإله خاص وكان الإله حامي المدينة وله حق السيادة عليها وكان المعبد مسكن الآلهة ومركز الحياة الثقافية ومحور الحركة والعمران والاقتصاد ومظهر نشاط المجتمع في جميع نواحي الحياة وكان للمعبد أهميته ودوره في نمو التنظيمات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية ومن أجل

ترسيخ هذا المفهوم تم بناء الزقورات( المعابد المدرجة) في المدن الرافدية وكانت الزقورة حلقة الوصل بين السماء والأرض ولذلك يطلق على مدن الحضارات الشرقية القديمة مصطلح المدينة المعبدية وفي داخل تلك المعابد ظهر أعظم إختراع حضاري في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد

وهو إختراع الكتابة بسبب الحاجة إلى إيجاد وسيلة لتدوين واردات المعبد وأملاكه وبالطبع يعود الفضل في ذلك الإختراع لرجال الدين ومن أجل توضيح ما تقدم يمكن القول أن هذا الشكل السياسي الديني للمدينة في الحضارات الشرقية يشبه إلى حد كبير تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة حيث كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم رأس الهرم السياسي والديني للدولة، وكان المسجد نواة المدينة ومنه تصدر القرارات السياسية والإدارية والعسكرية وغيرها أما في الفترة الأكادية فإننا نجد ملوك الأكاديين يركزون على الجانب الديني من أجل صبغ حكمهم بالصبغة الشرعية وتدعيم ذلك الحكم فالملك سرجون مؤسس الدولة الأكادية بقي أصله غامضاً وربما كان ذلك من أجل تعليل منحدره الإلهي وهو يتحدث عن طفولته ويقول أن أمه كاهنة عليا في المعبد ألقته في النهر ثم نشأ وترعرع في مدينة كيش وهي المدينة التي نزلت عليها الملكية من السماء بعد الطوفان وعندما أصبح شاباً عمل ساقياً عند (زابابا) إله الحرب في مدينة كيش ثم إكتسب حب الآلهة (عشتار) ونال رضا الإله مردوخ كبير الآلهة عند البابليين وهذه القصة التي كتبها سرجون عن نفسه تعتبر أقدم نص تاريخي يسجل دعوى تلقي الحكام للحكم والسلطة من الآلهة وذلك من أجل إضفاء الشرعية الدينية على تسلمه زمام الحكم في الدولة الأكادية وأنه نائب عن الآلهة في الأرض أما حفيده الملك نارام سن إهتم بالجانب الديني بشكل لم يسبق له مثيل حيث قام بما يلي:
1- وضع أمام اسمه في النصوص المدونة إشارة النجمة * وهي الاشارة التي تدل على الألوهية وسار على هذا النهج عدد من الملوك الذين جاءوا بعده
2- لقب نفسه ( إله أكاد) وهذه بدعة جديدة جاء بها وكانت أقرب ما تكون إلى الكفر والخروج على العرف الديني لأن الحكام في وادي الرافدين لم يتجاوزوا وهم في أوج عظمتهم حد التقديس والتأليه ولم ينسوا أنهم نواب عن الآلهة في حكم البشر
3- إن الملك سرجون وحفيده نارام سن إتخذوا لقب ملك الجهات الأربع (شار كبرات اربعيم) وهو لقب ذو مدلول ديني كبير من أجل تثبيت السلطان السياسي لأنه كان لقباً خاصاً ببعض الآلهة العظام بصفتهم أسياد الخليفة والكون باتخاذ الملوك الأكاديين هذا اللقب أصبحوا ممثلين للآلهة في حكم البشر
4- إن الملك نارام سن قد ظهر في لوحته الشهيرة ( مسلة النصر) التي تخلد إنتصاره على قبائل اللولوبي وعلى رأسه الخوذة ذات القرنين وهي رمز يخص لباس الآلهة فقط ولم يلبسها أحد ممن سبقه من الملوك إن الهالة الدينية التي أحاط بها ملوك أكد أنفسهم بشكل مبالغ فيه دفعت المؤرخين إلى اعتبار ذلك خروجاً عن الدين وكان سبباً رئيسياً في سقوط الدولة الأكادية على يد الجوتيين أما في العصر البابلي القديم فإننا نشاهد لوحة الملك حمورابي واقفاً أمام الإله ( مردوخ) كبير آلهة بابل يتسلم منه الشريعة أو ما يسمى قانون حمورابي الذي يتكون من 250-280 ماده إن هذا المشهد يعني أن هذه الشريعة مستمدة من الإله وليست من حمورابي نفسه وهذا يعتبر ذكاء سياسياً وسعة أفق وكأنه يريد أن يقول للرعية بأن إطاعة هذه الشريعة والالتزام بها هي طاعة للإله وليس للملك نفسه وأن الخروج عنها هو خروج عن تعليم الإله وأن حمورابي هو الواسطة بين الإله مردوخ وعامة الشعب أما في وادي النيل فإن الدين المصري القديم يعتبر من أبرز مظاهر الحضارة المصرية وتفيدنا النصوص الدينية التي نقشها المصريون على جدران المعابد والمقابر وورق البردي في معرفة الكثير من جوانب حياتهم وإنجازاتهم الحضارية في مختلف الميادين الإنسانية، لقد إستمد الدين المصري عناصره الأولية من مظاهر الكون والبيئة مثل الشمس والقمر والزلازل والفيضان والمطر والرعد فقاموا بما يرضي تلك الظواهر ويجنبهم أذاها وآثارها المدمرة بدأ المصريون بتصوير آلهتهم بأشكال حيوانية مثل الثور والأسد ومع تطورالحضارة المصرية تحولوا من تمثيل المعبودات من صورالحيوان إلى تمثيلها بصور آدمية

مثل صورة (آمون) و(حتحور) ومع تطور الديانة المصرية ظهرت معتقدات دينية جديدة ونشأت الأساطير المصرية القديمة لتقريب المعبودات لإدراك الانسان المصري وبحثوا في نشأة الكون وما فيه من مخلوقات من خلال عناصر البيئة مثل الماء والزرع والأرض وكانت عندهم عواصم دينية تزداد وتتناقص أهميتها تبعاً للأوضاع السياسية فكانت هناك مدينة ممفيس والأشموني وهيليوبولس التي نشأ فيها أقدم مذهب ديني فرعوني لتفسير نشأة الكون والخليقة، وكان لرجال الدين دور بارز في الحضارة المصرية فكانوا يقومون بالصلوات والأدعية والإشراف على تقديم القرابين وإدارة أموال المعابد وتدوين شؤونها، ثم تطورت العقائد الدينية في عهد المملكة الحديثة وتحول الفكر الديني تحولاً خطيراً في عهد الفرعون ( أخناتون) صاحب الثورة الدينية في مصر القديمة، وهو الذي قام بتوحيد جميع الآلهة المصرية في إله واحد هو إله قرص الشمس( آتون) وبنى له عاصمة جديدة سماها ( أخت آتون) وهي تل العمارنة حالياً ويتجلى أثر الدين في الحضارة المصرية القديمة من خلال معتقداتهم، فقد إعتقد المصريون بأن الإنسان يتألف من عنصرين هما الجسد والروح وأن الروح تهجر الجسد عند الموت وتعود إليه في الحياة الثانية وإعتبروا القبر دار الروح كما آمنوا بالبعث بعد الموت وإهتموا بالمحافظة على الجسد حتى تعود إليه الروح بسهولة ويسر وحتى يبقى الجسد سليماً قاموا بتحنيطه ودفنه في مكان آمن بعيداً عن المؤثرات الجوية والحيوانات فلجأوا إلى بناء المقابر الفرعونية الضخمة من مصاطب وأهرامات مثل أهرامات الجيزة ووضعوا مع فراعنتهم نصوص الأهرامات التي تساعدهم في الدخول إلى العالم الآخر وعناية الآلهة بهم في حياة ما بعد الموت وقد تطورت تلك النصوص فيما بعد إلى ما يعرف باسم كتاب الموتى ووضعوا مع الفرعون مائدة القرابين وعليها كل أصناف المأكل والمشرب حتى يتمتع بها في الحياة الأبدية إن كل ما تقدم ليس غريباً خاصة إذا تذكرنا أن المصريين إعتقدوا بأن الملك هو ظل الإله على الأرض وأن الملك خالد لا يفنى وأنه يتحكم في مصائر الرعية في الحياة الأخرى من حيث الجنة والنار ولذلك تفانى المصريون في خدمة الفرعون في حياته ومماته إعتقد المصريون بفكرة الثواب والعقاب ويظهر ذلك جلياً في مشهد محاكمة( آني ) كما جاء في كتاب الموتى حيث يصور المشهد عملية وزن قلب الانسان في الميزان لمعرفة أعماله الصالحة من الفاسدة وبناءً على ذلك يتم الحكم عليه بالجنة أو النار، إن هذا المشهد يذكرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم:

( إن في الجسم مضغة إذا صلحت صلح العمل كله وإذا فسدت فسد العمل كله )
إن أهمية الدين في الحضارة المصرية لم تخف على أحد في القديم أو الحديث فعندما إحتل الأشوريون مصر أهانوا الآلهة المصرية وحاولوا فرض عبادة الآلهة عشتار وهي آلهة سامية على الشعب المصري فرفض المصريون ذلك بشدة، وإستمروا يقاومون الآشوريون حتى تمكنوا من طردهم نهائياً من مصرعلى يد بسماتيك الأول يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت إن المصريين القدماء من أشد الشعوب تديناً وقد أدرك الإسكندر المقدوني هذه الحقيقة فعندما إحتل مصر تصرف

بعكس الآشوريين فقد لبس ملابس الكهنة المصريين وصلى في معبد الكرنك وذبح القرابين للآلهة فأحترمه المصريون ورحبوا به فاتحاً لبلادهم رغم أنه كان أجنبياً غازياً وخلاصة القول أن
الحضارات الشرقية حضارات دينية قامت على خدمة الدين وهي تتميز عن الحضارات الغربية بمعتقداتها الدينية(الميثولوجيا) التي تناقش أصل الكون والخليقة وأساطير الآلهة والصراع بين الخير والشر كل ذلك يعتبر موضوعات مشتركة بين تلك الحضارات مثل العراقية والمصرية والكنعانية والآرامية والفينيقية والعربية والإسلامية ويدل ذلك على وجود وحدة في التفكير الديني ينبع من مصدر واحد قديم، إن وحدة التفكير هذه ربما هي التي جعلت عقيدة التوحيد بأديانها السماوية تتنزل على الأرض التي قامت عليها حضارات الشرق الأدنى القديم